الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
ولو أقام المسلمون على المطمورة في أرض الحرب فقال الأمير: كل رجل يحفظ المطمورة الليلة حتى لا يخرج منها العدو فله دينار وأقام عليها مائة رجل حتى أصبحوا فإن كان الدينار جعله لكل رجل منهم مما يصيبون من المطمورة فهو نفل صحيح لأن أهل المطمورة ممتنعون والحاجة إلى التحريض على حفظهم بالتنفيل ماسة وحفظهم حتى لا يهربوا من الجهاد فلهذا صح التنفيل. وإن كان الأمير جعل لهم ذلك من الغنائم التي أصابها المسلمون فذلك باطل لأنه لا يمكن ذلك لهم بطريق التنفيل فإن بعد الإصابة لا يجوز و لا بطريق الأجرة لأن هذا العمل من الجهاد واستئجار المسلم على الجهاد باطل. وهذا لأنهم على عمل الجهاد يستحقون السهم من الغنيمة فكيف يستحقون الأجر مع ذلك. ولأن الجهاد وإن كان فرضاً على الكفاية فكل من باشره يكون مؤدياً فرضاً والاستئجار على أداء الفرض باطل كالاستئجار على الصلاة. وإن لم يبين الأمير من أي موضع يعطيهم ذلك فهذا تنفيل صحيح من المطمورة لأن مطلق كلام العاقل محمول على الوجه الذي يصح شرعاً لا على الوجه الذي يكون باطلاً شرعاً. وإن لم يكن في المطمورة مقاتلة وإنما فيها الذراري والأموال والمسألة بحالها فلكل واحد منهم دينار في الغنيمة هاهنا لأن حفظهم ليس بجهاد هاهنا وإنما استئجار على عمل معلوم ببدل معلوم. فكل من سمع مقالة الأمير وأقام العمل فله الأجر ومن يسمع مقالته فلا أجر له لأنه ما أقام العمل على وجه الإجارة ولكن على وجه التبرع حين لم يسمع بمقالة الأمير. وإنما هذا نظير قوله: كل من ساق هذه الأرماك إلى موضع كذا فله دينار فساقها قوم سمعوا مقالته فلكل رجل منهم أجرة دينار يبدأ به من الغنيمة قبل كل نفل وقسمة وإن ذهبت الغنائم كلها لم يكن للأجراء على الإمام شيء لأنه استأجرهم على وجه الحكم منه لمنفعة الغانمين فإنما أجرهم في الغنيمة ولم يبق بيده شيء من الغنيمة والإمام فيما يحكم به على وجه النظر لا يكون ملتزماً للعهد فلا يلزمه إذاً شيء من مال نفسه ولا يرجع على الغنيمة بشيء لأن ولايته عليهم مقيدة بتوفير المنفعة دون الإضرار بهم ولأنهم لم يملكوا الغنيمة بعد. ألا ترى أن للإمام أن يقتل الأسارى وإنما يجب البدل عليهم بالعقد إذا سلم العمل إليهم ولم يوجد ذلك حقيقة ولا حكماً بالتسليم إلى ملكهم. ولو قال الأمير: من نصب رماح المسلمين حول العسكر فله دينار ففعل ذلك رجل استحق الدينار لأن هذا ليس من الحرب ولا مما يجب على ذلك الرجل أن يفعله فيجوز استئجار الإمام إياه على ذلك بأجر معلوم. ولو قال: من نصب رمحه فله دينار أجر له لم يجز ذلك لأن ما يفعله في ملك نفسه لا يكون فيه أجيراً لغيره ولأن نصب رمحه من عمل الحرب كالطعن به فلا يستحق الأجر عليه بخلاف نصب رماح غيره من المسلمين. ولو قال: من قتل قتيلاً وجاء برأسه فله دينار فهذا تنفيل صحيح ويعطى الدينار من فعل ذلك من الغنائم التي تصاب بعد هذا أو من بيت المال إن رأى الإمام ذلك فأما مما أحرز من الغنائم قبل هذا فلا لأنه لا تنفيل بعد الإصابة فلا يمكنه أن يعطيه الدينار من ذلك نفلاً ولا أجرة لأن قتل أهل الحرب من الجهاد فلا يستحق المسلم عليه الأجر. وكما يثبت هذا الحكم في حق المقاتلة من المسلمين فكذلك في حق التجار والعبيد من المسلمين لأن فعلهم ذلك من الجهاد أيضاً ولهذا يستحق التاجر إذا فعل ذلك السهم من الغنيمة والعبد الرضخ. وأما أهل الذمة إذا فعلوا ذلك وقد استعان بهم الإمام وأوجب لهم مالاً معلوماً على عمل من ذلك معلوم فلهم الأجر لأن فعلهم ليس بجهاد فإن الجهاد ينال به الثواب والكافر ليس بأهل لذلك والجهاد ما يتقرب العبد به إلى ربه وهم لا يتقربون بذلك بخلاف المسلم. قال: ألا ترى أن رجلاً لو خرج بآخر يجاهد في سبيل الله بديلاً عن إنسان لم يكن له أجر لأنه يتقرب إلى الله تعالى فأجره على الله تعالى والمتقرب إلى الله تعالى عامل لنفسه فكيف يكون له الأجر على غيره وعند إصابة الغنيمة السهم يكون له دون من استأجره فعرفنا أنه عامل لنفسه. ثم بين أن: الاستئجار على الجهاد بمنزلة الاستئجار على الحج وعلى الأذن والإقامة. وقد بينا الكلام في الاستئجار على الطاعات في شرح المختصر. ولو حاصر المسلمون حصناً ولأهل الحصن ملاعب وكنائس خارج منه وليس فيها أحد فاستأجر الإمام على تخريبها قوماً من المسلمين بأجرة معلومة فذلك جائز لأن تخريب ذلك ليس من عمل الجهاد وقد حصل في أيدي المسلمين ولا تحتاج إلى قتال. بخلاف ما إذا استأجرهم على تخريب حصن أهله ممتنعون فيه أو كسر باب لأن ذلك من عمل الجهاد يحتاج في إقامته إلى القتال. ولو أن قوماً من أهل الحرب أقبلوا في سفنهم يريدون المسلمين فاستأجر الإمام قوماً من المسلمين من أحرارهم أو عبيداً للمسلمين كفاراً أو مسلمين يرمونهم بالمحرقات فلا أجر لهم لأن هذا من عمل الجهاد وإنما يعتبر فيه دين المولى لا دين العبد لأن المسلم يكون مجاهداً بعبيده كما يكون مجاهداً بفرسه. وإن جعل ذلك نفلاً لهم مما يصيبون فهو جائز للحاجة إلى التحريض. وكذلك لو استأجر قوماً في البر يرمون بالمجانيق الحصون وإن استأجر قوماً من أهل الذمة على ذلك جاز لأن عملهم ليس بجهاد لانعدام الأهلية فيهم. ولو استأجر قوماً من المسلمين يجذفون بهم في البحر فهذا جائز لأن هذا ليس من عمل الجهاد وهو عمل معلوم يجوز الاستئجار عليه. ألا ترى أنهم يفعلون ذلك إذا لقوا العدو أو لم يلقوهم وأن الملاحين يأخذون الأجر على ذلك وهو حلال لهم. ولو ظفر المسلمون بغنائم متفرقة وليس معها من يمنعها فقال الأمير: من جمعها فله دينار فهذا جائز لأنه ليس من عمل الجهاد وهو معلوم في نفسه فيجوز إجارة فاسدة إلا أن يبين المدة فيقول: استأجرتك عشرة أيام بكذا لتبيع الغنائم لأن بيان المدة العقد يتناول منافعه ولهذا استحق الأجر بتسليم النفس باع أو لم يبع وإذا لم يبين المدة فالمعقود عليه البيع وهو مجهول وقد يتم البيع بكلمة واحدة وقد لا يتم بعشر كلمات فكذلك لا يتهيأ منه البيع بدون مساعدة المشتري فلهذا كان الاستئجار على البيع فاسداً وليس هذا فيمن يبيع الغنائم خاصة ولكن في جميع الباعة الحكم هكذا. وكذلك لو استأجر من يقسم الغنائم بين الغانمين بأجر معلوم فذلك جائز لأن القسمة عمل معلوم يتم بالقسام ويجوز أخذ الجر عليه. على أنه كان لعلي رضي الله عنه قاسم يقسم بالأجر ويستوي أن يبين المدة هاهنا أو لم يبين لأن العمل معلوم بنفسه. ثم يبدأ بأجره قبل النفل والغنيمة لأن هذا دين وقسمة الغنيمة كقسمة الميراث والنفل فيه كالوصية والدين مقدم عليهما. فإن كان استأجر بأكثر من أجر مثله نظر فإن كانت الزيادة يسيرة فذلك جائز وإلا لم يكن له إلا مقدار أجر مثله لأن الأمير في هذا التصرف ناظر فتتقيد ولايته بشرط النظر كولاية الأب والوصي في الاستئجار لليتيم. فإن استرد منه الفضل على أجر مثله فقال الأجير: أنا أرجع بذلك على من استأجرني لم يكن له ذلك لأن الذي استأجره ما عقد العقد لنفسه وإنما عقد للمسلمين على وجه الحكم منه إلا أنه أخطأ في ذلك فلا يلزمه شيء من العهدة بخلاف الوكيل بالاستئجار فإنه إذا باشر العقد بأكثر من أجر المثل فذلك كله لازم عليه ليس على الأمير منه بشيء وأما الأمير فالعقد لا ينفذ عليه لأنه لا تلحقه العهدة فيما يحكم به وإنما يشبه الأمير هاهنا القاضي إذا استأجر رجلاً يعمل لليتيم عملاً بأجر معلوم فإذا فيه غبن فاحش فإنه يعطي الأجير أجر مثله ويرد ما بقي على اليتيم ولا شيء على القاضي لأن استئجاره منه كان على وجه الحكم منه. ولو قال الأمير والقاضي: فعلنا ونحن نعلم أنه لا ينبغي لنا أن نفعله فجميع الأجر عليهما في ماليهما قال: لأنهما تعمدا الجور فصارً فيه حاكمين. وبهذا اللفظ يستدل من يزعم أن الحاكم ينعزل بالجور وليس هذا بمذهب لنا وقد بينا ذلك فيما أملينا من شرح الزيادات في باب التحكيم. وإنما تأويل ما ذكر هاهنا: أن حكمه إنما ينفذ إذا صدر عن دليل شرعي وهذا الحكم خلا عن ذلك فهو بمنزلة القاضي إذا قضى بغير حجة أو قضى برأيه مخالفاً للنص لا ينفذ قضاؤه وهو قاض على حاله فإذا لم ينفذ قضاؤه بهذا الطريق نفذ عقده عليه على ما هو الأصل أن العقد متى وجد نفاذاً على العاقد ينفذ عليه. وقد ذكرنا في آداب القاضي أن القاضي إذا أخطأ في قضائه فإن كان ذلك في حقوق العباد فعزم ذلك على من قضى له وإن كان ذلك في حدود الله فخطأه على بيت المال وإن قال: تعمدت ذلك كان الغرم عليه من ماله فكذا ما صنعه الأمير يكون الحكم فيه ذلك ولو استأجر الأمير قوماً يسوقون الأرماك فساقوها فعطب منها شيء من سياقهم أو هلكت في أيديهم فإن كان ذلك وهم في دار الحرب قبل أن ينتهوا إلى دار الإسلام فلا ضمان عليهم في شيء من ذلك سواء تلفت بعملهم أو بغير عملهم لأنهم لو استهلكوا الغنائم في دار الحرب لم يضمنوها باعتبار أن الحق لم يتأكد فيها للغانمين بعد. وإن كان ذلك بعد ما وصلوا إلى دار الإسلام فحالهم كحال الأجير المشترك. وقد بينا في شرح المختصر أن ما تلف في يد الأجير المشترك بغير صنعه لم يكن عليه ضمانه في قول أبي حنيفة - رحمه الله - سواء تلف بسبب يتأنى الاحتراز عنه أو لا يتأنى وعندهما هو ضامن له إلا أن يتلف بسبب لا يمكن الاحتراز عنه وما تلف بجناية يده فهو ضامن له في قول علمائنا الثلاثة بمنزلة ما لو استهلكه فهاهنا أيضاً ما عطب بسياقهم أو بتناطحها فذلك من جناية يد الأجراء فعليهم ضمان قيمة ذلك. ولكن إنما يضمنون قيمته في المكان الذي تلف فيه ويكون لهم الأجر إلى ذلك الموضع بخلاف القصار وغيره فهناك لصاحب المتاع الخيار إن شاء ضمنه قيمته معمولاً وله الأجر لأن هناك فسخ العقد باعتبار تفرق الصفقة على العاقد ممكن فإن إيجاب الضمان على الأجير من وقت القبض بهذا الطريق يتأتى لأنه لو استهلكه عند ذلك كان ضامناً فأما هنا لا يمكن بإيجاب الضمان عليهم باعتبار وقت التسليم إليهم لأنهم لو استهلكوا عند ذلك وهم في دار الحرب لم يضمنوا شيئاً فلا بد من إبقاء العقد بقدر ما أوفوا من العمل ليتأتى إيجاب الضمان عليهم فلهذا كان لهم الأجر إلى ذلك الموضع. وكذلك هذا الفرق لهما فيما يتلف بغير صنعهم فيما يتأنى الاحتراز عنه ولو تلف شيء من ذلك في دار الحرب فلا ضمان عليهم لما قلنا ولكن على قول أبي حنيفة: إن تلف بغير صنعهم فلهم أجر بقدر ما أتلفوا من العمل لأنهم ما صاروا مستردين لما سلموا حين هلك بغير صنعهم. وإن هلك يصنعهم فلا أجر لهم لأنهم صاروا كالمستردين للعمل ولأنه لم يسلم للغانمين بعملهم شيء حين لم يجب الضمان عليهم فلا يجب الأجر أيضاً لهم بخلاف ما إذا أعطب من فعلهم في دار الإسلام والضمان قد وجب عليهم هاهنا فعرفنا أن العمل قد سلم للغانمين بهذا الطريق. وأما على قولهما فلا أجر لهم فيما يتلف في دار الحرب بغير صنعهم أيضاً لأنه فيما يمكن الاحتراز عنه بكون التلف مضافاً إليهم حكماً ولهذا لو كان في دار الإسلام ضمنوا قيمته. فبهذا الطريق يثبت استرداد ما أقاموا من العمل حكماً فلا يكون لهم الأجر على ذلك. وشبه هذا بمن استأجر رجلاً في دار الإسلام يحمل له جلود ميتة ليدبغها فحملها فعثر في فسقطت فاحترقت أو أحرقها الذي حملها بالنار لم يكن عليه ضمان لأنه ليس بمال متقوم ولا أجر له لأن صار مسترداً لعمله بما فعله من الإتلاف فلا يستوجب الأجر. فكذلك حكم الغنائم فيما وصفنا إذا تلف في دار الحرب شيء منها بصنعه أو بغير صنعه. وإن كان أخذ العدو ذلك منهم مجاهرة فلهم الأجر إلى ذلك المكان لأن التلف هاهنا حصل بما لا يتأتى لهم الاحتراز عنه فلا يكونوا به مستردين لما أقاموا إلا أنهم إذا ادعوا ذلك فعلى قول أبي حنيفة القول قولهم مع اليمين لأن أصل قبضهم كان على وجه الأمانة عنده فكان القول قول الأمين على اليمين. وعندهما لا يصدقون على ذلك إلا ببينة لأن قبضهم قبض ضمان عندهما ولهذا لو تلف بعد الخروج إلى دار الإسلام كانوا ضامنين والضامن لا يقبل قوله إلا بحجة بمنزلة الغاصب. ولو استأجر أمير العسكر رجلاً يحمل رقيقاً وسبياً من الغنيمة صغاراً أو كباراً على دوابه إلى مكان معلوم فحملهم فعطبوا في دار الحرب من سياقه بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان عليه. وكذلك إن هلكوا في دار الإسلام إذا لم يعلم من جهته استهلاك أو تضييع أو عنف في سوق الدابة. بخلاف ما إذا كان المحمول متاعاً سوى بني آدم فهناك يضمن ما عطب من سياقه في دار الإسلام. وهذا الضمان الواجب في الآدمي ضمان جناية وهو ليس من جنس ضمان العقد ووجوب الضمان على الأجير المشترك باعتبار العقد ولا يمكن اعتبار العقد عليه يصير مسلماً إلى الراكب إذا كان من بني آدم فيخرج من ضمان الأجير بخلاف الأمتعة. ثم يكون له الأجر إلى الموضع الذي حملهم إليه لأن المعقود عليه صار مسلماً إلي من أمر المستأجر بالتسليم إليه ولأنه لما لم يجب الضمان على الأجير عرفنا أنه لم يصر مسترداً شيئاً. وأما إذا عنف عليهم في السوق أو استهلكهم فإن فعله في دار الحرب فلا ضمان عليه. لعدم تأكد الحق للغانمين. ولا أجر له لأنه صار مسترداً لما سلم بما أحدث من فعل الاستهلاك. والأمير يؤدبه فيما صنع لأنه متعد بإتلاف ما ثبت حق الغانمين فيه. فإن فعل ذلك في دار الإسلام فهو ضامن قيمة ما استهلك. لتأكد الحق فيه بالأحرار. وله الأجر إلى الموضع الذي حملهم إليه لأنه إنما يضمن القيمة في هذا المكان وذلك يقرر تسليمه لا أن يجعله مسترداً. إلا الرجال من الأسراء فإنه لا ضمان عليه فيهم لأن الحق فيهم لا يتأكد بالإحراز. ألا ترى أن للإمام أن يقتلهم فكان فعله ذلك في دار الإسلام وفي دار الحرب سواء ولا أجر له في حملانهم لأنه صار مسترداً لعمله في حملهم حتى لم يجب عليه الضمان فيهم. ولو أن الأمير استأجر قوماً مياومة أو مشاهرة لسوق الأرماك فهو جائز لأنه عقد العقد على منفعة معلومة ببدل معلوم. ثم لا ضمان على الجير هاهنا فيما يعطب من سياقه أو لا من سياقه في دار الحرب أو في دار الإسلام لأنه أجير الوحد وأجير الوحد لا يضمن ما جنت يده إذا كان فعله حاصلاً على الوجه المعتاد لأن المعقود عليه منافعه. ألا ترى أن سلم النفس في المدة استوجب الأجر ومنافعه في حكم العين فلا يعتبر فيه صفة سلامة العمل عن العيب بخلاف الأجير المشترك. فإن عنفوا في السوق أو استهلكوا في دار الإسلام كانوا ضامنين. لوجود التعدي منهم بعد تأكد الحق. ولهم أجورهم لما مضى لأنه تقرر الأجر بتسليم النفس في المدة فلا يبطل حقهم بوجود التع ي منهم وأوضح هذا الفرق فقال: ألا ترى أن للأمير هنا أن يزيد عليهم أرماكاً بعد أرماك بقدر ما يطيقون ولو مات بعضها كان له أن يخلف مكانها مثلها وفي الأجير المشترك ليس له أن يفعل شيئاً من ذلك. فبه يتبين أن العقد هناك يتناول العمل وبقضية المفاوضة تثبت صفة السلامة عن العيب وهاهنا العقد يتناول المنفعة دون العمل. ولو قال الأمير لمسلم حراً أو عبداً إن قتلت ذلك الفارس من المشتركين فلك على أجر مائة دينار فقتله لم يكن له أجر لأنه لما صرح بالأجر لا يمكن أن يحمل كلامه على التنفيل والفعل الذي حرضه على جهاد والاستئجار على الجهاد لا يجوز. وإن قال ذلك لرجل من أهل الذمة فكذلك الجواب. في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ولأبي يوسف رحمه الله وفي قول محمد رحمه الله للذمي الأجر المسمى. وأصل هذه المسألة: أن الاستئجار على القتل لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف سواء كان بحق أو بغير حق حتى لو استأجر ولي الدم رجلاً ليستوفي القصاص في النفس لم يكن له أجر عندهما وفي قول محمد: يجوز الاستئجار على القتل لأنه عمل معلوم يقدر الأجير على إقامته فيجوز الاستئجار عليه كذبح الشاة وقطع بعض الأعضاء فإن الإمام لو استأجر رجلاً ليقطع يد السارق أو من له القصاص في الطرف إذا استأجر في الطرف إذا استأجر رجلاً ليستوفي ذلك جاز بالاتفاق. وبيان ذلك الوصف: القتل يكون بجز الرقبة وفي قدرة الأجير على ذلك لا فرق بين إبانة الرأس من البدن وبين إبانة الطرف من الجملة. وجه قوهما: أن القتل ليس من عمله لأن القتل إنما يحصل بزهوق الروح وذلك مصان عن محل قدرته فلا يكون من عمله بمنزلة حصول الولد ونبات الزرع والإضافة إلي باعتبار أنه يحصل بكسبه لا باعتبار أنه من عمله. ألا ترى أن فعله الضرب بالسيف وقد يفعل ذلك ولا يحصل القتل به وإنما يجوز الاستئجار على منافعه أو على ما يكون من عمله وهذا بخلاف الذبح لأن الاستئجار على ما يحصل به الزكاة وهو مميز الطاهر من النجس وذلك قطع الحلقوم والأوداج وذلك من عمله وكذلك قطع الأطراف فإنه ليس في ذلك من إزهاق الروح شيء ولكنه فصل الجزء من الجملة وهذا من عمله بمنزلة قطع الحبل والخشبة. ولو كان الأسراء قتلى فقال الأمير: من قطع رؤوسهم فله أجر عشرة دراهم ففعل ذلك مسلم أو ذمي كان له الأجر لأن ليس من عمل الجهاد وهو عمل معلوم في محل قدرة الأجير فيجوز استئجاره عليه كقطع الخشبة أو الحبل. ولو نظر الأمير إلى فارس من أهل الحرب فقال لمسلم حر أو عبد: إن جئتني بسلبه فلك أجر عشرة دنانير فقتله وجاء بسلبه وأفلت منه فلا شيء له لأنه استأجره على عمل الجهاد. وإن قال ذلك لذمي فله الأجرف منه لأن فعله ليس بجهاد. وكذلك لو قال: إن قطعت يده فلك كذا لأن قطع يد الممتنع المقاتل من الجهاد فلا يستوجب المسلم عليه أجراً ويكون عليه للذمي الأجر لأن فعله ليس بجهاد. ولو أراد قتل الأساري فاستأجر على ذلك مسلماً أو ذمياً فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الاستئجار على قتل المقضي عليه بالقصاص. ولو قال الأمير لقوم من أهل العسكر:: احفروا هذا الموضع من هذا النهر إلى موضع كذا حتى ينبثق الماء فيغرق أهل هذه المدينة ولكم أجر مائة دينار ففعلوا ذلك فإن كان على ذلك الموضع قوم من أهل الرحب يقاتلون ويمنعون من ذلك فلا شيء للأجراء إذا كانوا مسلمين لأن ما استئوجروا عليه من عمل الجهاد. وإن كانوا من أهل الذمة فلهم الأجر وإن كانوا عشرين نفراً: عشرة مسلمين وعشرة ذميين فلأهل الذمة نصف الأجر لأنه يجعل في حق كل فريق كان الفريق الثاني مثلهم. وإن لم يكن في ذلك الموضع من يقاتل من أهل الرحب فلهم الأجر المسمى لأن حفر الأرض ليس من عمل الجهاد فيستوجب المسلم الأجر عليه كما يستوجب الذمي وهو نظير ما تقدم من تخريب الملاعب والكنائس الخارجة عن الحصن بعد ما صارت في أيدي المسلمين. وكذلك إن استأجرهم لقطع الأشجار فهو على هذا التقسيم لأن ما استأجروا عليه عينه ليس بجهاد وإنما يصير في معنى الجهاد إذا كان هناك من يمنعك عنه حتى يحتاج إلى أن تجاهده في إتمام ذلك العمل فإذا لم يكن هناك من ينابذك لم يكن من الجهاد في شيء. ولو استأجر قوماً يرمون بالمنجنيق فإن كانوا من أهل الذمة فلهم الأجر وإن كانوا مسلمين أحراراً أو عبيداً فلا أجر لهم لأن هذا من عمل الجهاد فالرمي بالمنجنيق لتخريب الحصن الذي هم فيه ممتنعون وعلى الدفع عنه يقاتلون بمنزلة الرمي بالسهم لإصابة النفوس ولا يقال: إنهم يرمون في منعة المسلمين فلا يكون فعلهم جهاداً لأنهم وإن كانوا في منعة المسلمين فالرمية وقعت في منعة المشركين وهو المقصود. فإن قيل: ففي حفر النهر إذا لم يكن هناك من يمنع يوجد هذا المعنى لأن الماء يسيل في ذلك الموضع حتى يغرقهم في منعتهم كما أن ما يرمى من المنجنيق يذهب حتى يخرب ويقتل في منعتهم. قلنا: نعم ولكن المنجنيق والسهم عمل القوم بأيديهم على معنى: أن ما حصل يكون مضافاً إليهم بالمباشرة وأما الغرق فلا يصير مضافاً إلى حافر النهر بالمباشرة وإنما عملهم هناك الحفر فقط وتبين هذا الفرق في فعل هو جناية فإن من وقف في ملك نفسه ورمى سهماً إلى إنسان فقتله كان قاتلاً له مباشرةً مستوجباً للقصاص وبمثله من الحفر نهراً في ملكه فغلبه الماء وانبثق على أرض جار له فغرق الزرع لم يكن على الحافر في ذلك ضمان فبهذا تبين الفرق. والله أعلم بالصواب.
وإذا قال الأمير: من جاء برمكة فهي له بيعاً بعشرة دراهم فذهب المسلمون وجاءوا بذلك فإن هذا البيع باطل لنهي النبي عليه السلام عن البيع الغرر وعن بيع ما ليس عند الإنسان. فإن المراد بيع ما ليس في ملكه والأمير هاهنا باع ما ليس في ملكه ولا في يده وهو على خطر الحصول في يد المسلمين مجهول في نفسه ولو كان معلوماً لم ينجز البيع فيه إذا لم يكن عنده فكيف إذا كان مجهولاً. ولكن إن رغب الذي جاء به أن يأخذه بذلك الثمن فعلى الإمام أن يتقبل بيعاً منه بذلك الثمن لأنه ذكر ذلك على وجه التنفيل والقصد تحريض المسلمين على المجيء بها. فليس له أن يرجع عن التنفيل بعد ما أتوا بما شرط عليهم ولكن يحصل مقصودهم بطريق صحيح شرعاًً وهو البيع ابتداءً. وإن لم يرغب فيه الذي جاء به أخذه الأمير منه فجعله في الغنيمة وليس على الرجل شيء من ثمنه لأن التنفيل لمراعاة حقه وذلك ينعدم إذا لم يرض به. وأصل الثمن لم يكن واجباً عليه بما تقدم من السبب ولو كان واجباً كان له الخيار في رده لأنه اشترى ما لم يره فكيف إذا لم يكن البيع صحيحاً أصلاً. ثم لا نفل له لأن التنفيل كان في ضمن البيع فيبطل ببطلانه بمنزلة الوصية بالمحاباة فإنه لما ثبت في ضمن البيع بطل ببطلان البيع بالرد. وعلى هذا لو قال: من جاء برمكة بعناها إياه بعشرة فهذا والأول سواء لأنه وعد البيع هاهنا ولكن فيه معنى التنفيل فعليه أن يفي به إذا رغب فيه الذي جاء بها. ألا ترى أ ه لو قال: وهبناها له أو وهبنا له نصفها فإنه يلزمه أن يفي لمن جاء بذلك بما وعد له إلا أنه لا يصير مالكاً لذلك ما لم يجعلها الأمير له بخلاف ما لو قال: فهي له لأنه إذا قال: فهي له فهذا تنفيل منفذ فبنفس الإصابة يصير له. وإذا قال: وهبناها له فهذا تنفيل موعود فعيه الوفاء بما وعد ولكن لا يثبت المال له قبل أن يهبها منه حتى لو كانت جارية وأعتقها لم يجز عتقه وإن قال: فهي له هبة أو فهي عليه صدقة فذلك لمن جاء بها من غير تمليك جديد من الأمير لن قوله: فهي له تنفيل تام وقوله: هبة يكون تأكيداً لقوله: فهي له فلا يتغير حكمه. وإن قال: من جاء بسيف وهبناه له أو بعناه منه بعشرة دراهم فجاء رجل بذلك ثم رأى الإمام أن لا يسلمه له لشدة حاجة المسلمين إليه فلا بأس بأن ينعه منه ولكن بشرط أن يعطيه قيمته إذا كان الموعود هبة وإذا كان بيعاً يعطيه قيمته لكن يرفع من ذلك الثمن المشروط عليه لأن التمليك موعود هاهنا غير منفذ والإمام ناظر للكل فإذا رأى بالمسلمين حاجة إلى ذلك فلو أعطاه المشروط تضرر به المسلمون ولو أعطاه القيمة توفر عليه مقصوده وارتفعت حاجة المسلمين من ذلك العين فيعتدل النظر من الجانبين بهذا الطريق. وإن لم يكن بالمسلمين حاجة فليسلمه له على ما شرط لأن ذلك الشرط كان على وجه التنفيل منه فعليه الوفاء بذلك لقوله عليه السلام: " المسلمون عند شروطهم ". ولو جمعت الغنائم فقال الأمير: من أخذ جبنة فعليه ثمنها درهم ومن أخذ شاة فعليه خمسة دراهم ومن أخذ جارية فهي له بمائة درهم فأخذ رجل شاة فذبحها وأكلها وأخذ آخر جبنة فأكلها وأخذ آخر جارية فأعتقها فعلى كل واحد قيمة ما أخذه لأن هذا الكلام من الأمير ليس على وجه التنفيل فإن التنفيل بعد الإصابة لا يجوز ولكنه على وجه البيع وهو فاسد لجهالة المبيع عند العقد فكل من أخذ شيئاً ولم يستهلكه فللإمام أن يسترده منه لفساد البيع أو يسلمه له بذلك الثمن بيعاً مستقبلاً إن رضي به المشتري لأنه بأخذه قد تعين فيجوز بيعه منه ابتداءً ولكن ابتداء البيع يعتمد التراضي من الجانبين وإن استهلكها فعليه ضمان القيمة كما هو الحكم في المشترى شراءً فاسداً إذا استهلكه المشتري بعد القبض ولهذا نفذ العتق في الجارية لأنه قبضها بحكم بيع فاسد فتملكها حتى لو باعها جاز البيع وغرم قيمتها فكذلك إذا أعتقها. فإن قيل: كيف يضن القيمة وهو لو أكل الجبنة أو بح الشاة فأكلها قبل هذا كان مباحاً له ولم يكن عليه ضمان في ذلك وكذلك لو أتلف الجارية في دار الحرب لم يكن ضامناً شيئاً. قلنا: لأن هذا الكلام لم يتأكد حق الغانمين فيها فأما بعد هذا القول فقد تأكد حق الغانمين فيها لأن البيع الفاسد معتبر بالجائز وبيع الإمام الغنائم في دار الحرب بمنزلة الإحراز في تأكد حق الغانمين فيها. يوضحه أنه قد تملك المأخوذ هاهنا بالأخذ بجهة العقد ولهذا لو باعه جاز بيعه فيه والتمليك بعقد المعاوضة لا يكون إلا بعوض وذلك بالقيمة إذا لم يتأكد قبل الإحراز. ولو كان الآخذ لم يسمع مقالة الأمير حتى أكل الشاة لم يضمن شيئاً ولو باعها لم يجز بيعه لأنه ما أخذها على وجه البيع حين لم يسمع مقالة الأمير فكان هو بمنزلة ما لو أخذها قبل مقالة الأمير فأما السامع فإنما أخذها على جهة البيع والملك وهذا بخلاف ما لو قال قبل إحراز الغنيمة: من جاء بجارية فهي له بيعاً بألف درهم فجاء رجل بجارية فأعتقها لم يجز عنقه لأن ذلك البيع لم يكن منعقداً أصلاً لأن البيع بدون المحل لا ينعقد لا جائزاً ولا فاسداً وهاهنا المحل كان موجوداً لكنه كان مجهولاً حين أوجب البيع فينعقد البيع بصفة الفساد ويثبت الملك بالقبض. ولو قال: من جاء بشاة فهي له بيعاً بدرهم فجاء رجل بشاة فذبحها وأكلها لم يكن عليه فيها ضمان لأن البيع لم يكن منعقداً هاهنا فكأنه أخذها قبل مقالة الأمير وأكلها فلهذا لا يضمن شيئاً.
وإذا أصاب المسلمون الغنائم فأحرزوها وأرادوا قسمتها فعلى قولي أبي حنيفة رضي الله عنه: يعطى الفارس سهمين سهماً له وسهماً لفرسه والراجل سهماً. وقال: لا أجعل سهم الرفس أفضل من سهم الرجل المسلم وهو قول أهل العراق من أهل الكوفة والبصرة لأن تفضيل البهيمة على الآدمي فيما يستحق بطريقة الكرامة لا وجه له والاستحقاق باعتبار إرهاب العدو وذلك بالرجل أظهر منه بالفرس. ألا ترى أن الفرس لا يقاتل بدون الرجل والرجل يقاتل بدون الرفس وكذلك مؤنة الرجل قد تزداد على مؤنة الفرس فالفرس لا يجتري بالحشيش وما لا قيمة له ومطعوم الآدمي لا يوجد إلا بثمن مع أنه لا يعتبر بالمؤنة فإن السهم لا يستحق بالبغل والبعير والحمار وصاحبه يلتزم مؤنة مثل مؤنة الفرس أو أكثر وبالفيل لا يستحق السهم ومؤنته أكثر من مؤنة الفرس. وبهذا تبين أن استحقاق السهم بالفرس ثابت بخلاف القياس بالنص لأن الفرس آلة للخرب وبالآلة لا يستحق السهم ومجرد حصول إرهاب العدو به لا يوجب استحقاق السهم به كالفيل ولكن تركنا القياس في الفرس بالسنة وإنما اتفقت الأخبار على استحقاق سهم واحد بالفرس فيترك القياس فيه لكونه متيقناً وفيما تعارض فيه الأثر يؤخذ بأصل الرفس. وعلى قول أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وهو قول أهل الحجاز وأهل والشام. قال محمد: وليس في هذا تفضيل البهيمة على الآدمي فإن السهمين لا يعطيان للفرس وإنما يعطيان للفارس فيكون في هذا تفضيل الفارس على الراجل وذلك ثابت بالإجماع ثم هو يستحق أحد السهمين بالتزام مؤنة فرسه والقيام بتعاهده والسهم الآخر لقتاله على فرسه والسهم الثالث لقتاله ببدنه وقال: أرجح القول لأنه اجتمع عليه فريقان وقد بينا أنه يرجح بهذا في مسائل الكتاب وعلل فيه فقال: لأنه أقوى مما تفرد به فريق واحد يعني: طمأنينة القلب إلى ما اجتمع عليه فريقان أظهر. وهو نظير ما قال في الاستحقاق إذا أخبر مخبر بنجاسة الماء وأخبر اثنان بطهارته فإنه يؤخذ بقول الاثنين لأن طمأنينة القلب في خبر الاثنين أظهر. ثم بين أن الآثار جاءت صحيحة مشهورة لكل قول وروى الأخبار بالأسانيد في الكتاب فالحاجة إلى التوفيق والترجيح لكل واحد من الفريقين. فأما أبو حنيفة رحمه الله فقال: أوفق بين الأخبار فأحمل ما روى: أنه أعطى الفرس سهمين على أن أحد السهمين للفارس لفرسه والآخر كان من الخم لحاجته أو كان نفل لذلك قبل الإصابة أو المراد بذكر الفرس الفارس لعلمنا أنه إنما أعطى الفارس وعليه حمل حديث خبير في قوله: وكانت الرجال ألفاً وأربعمائة والخيل مائتي فرس. فقال: الماد بالرجال: الرجالة وبالخيل: الفرسان قال الله تعالى: ووجه التوفيق: أن المراد بما يروي أنه أعطى الفارسين سهمين: بيان ما فضل الفارس به على الراجل لا بيان جملة ما أعطاه. ثم ذكر حديث قسمة غنائم خبير أنها كانت على ثمانية عشر وقال في آخر ذلك الحديث: ولم يكن قسمها النبي إنما كانت فوضى وكان الذي قسمها وأرفها عمر بن الخطاب لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا ومعنى قوله: أرفها عمر بن الخطاب أي أخرج القرعة ووضعها على كل سهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا سهم للرجل إلا لفرس واحد وإن حضر بأفراس وبه أخذ محمد لأنه اجتمع على هذا القول أهل العراق وأهل الحجاز فأما أهل الشام فيقولون بسهم لفرسين ويجعل ما وراء ذلك جنيبة وبه أحذ أبو يوسف رحمه الله لأن المبارز قد يحتاج إلى فرسين ليقاتل عليهما ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: لا يقاتل عادة إلا على فرس واحد فكأن الثاني والثالث غير محتاج إليه عادة. وهذا نظير اختلافهم في نفقة الخادم أيضاً فإن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: القاضي لا يفرض النفقة إلا لخادم واحد من خدم المرأة وعند أبي يوسف يفرض لها نفقة خادمين وقد بينا ذلك في كتاب النكاح من شرح المختصر. ثم جاءت الآثار بما يشهد كل قول على ما رواها في الكتاب بالأسانيد والتوفيق والترجيح من كل جانب. على نحو ما ذكرنا في المسألة الأولى وذكر: عن مالك بن عبد الله الخثعمي قال: كنت بالمدينة فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: هل هاهنا من أهل الشام أحد فقلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: فإذا أتيت معاوية فأمره إن فتح الله عليه أن يأخذ خمسة أسهم ثم يكتب في أحدها الله ثم يقرع فحيث ما وقع فليأخذه. وفي هذا بيان أنه لا ينبغي للأمير أن يتخير إذا ميز الخمس من الأربعة الأخماس ولكنه يميز بالقرعة وقد دل عليه بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت الغنائم تجزأ خمسة أجزاء ثم يسهم عليها فما كان للنبي فهو له ولا يتخير. فكأن المعنى فيه: أن كل أمير مندوب إلى مراعاة قلوب الرعية وإلى ني تهمة الميل والأثرة عن نفسه. وذلك إنما يحصل باستعمال القرعة عند القسمة ولهذا تستعمل القرعة في قسمة الأربعة الأخماس بين العرفاء ثم يستعمل كل عريف القرعة في القسمة بين من القسمة بين من تحت رايته فكذلك يستعمل القرعة في تمييز الخمس من الأربعة الأخماس. والأصل فيه ما روى: " أن النبي عليه السلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه " وقد كان له أن يسافر بمن شاء منهن بغير اقراع فإنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج ومع هذا كان يقرع تطييباً لقلوبهم ونفياً لتهمة الميل عن نفسه فكذا ينبغي للأمير أن يفعل في القسمة أيضاً.
|